تبدأ الإجازة الصيفية وتجلس فتاتنا الجميلة في حيرة من أمرها، فهي لا تدري ماذا تفعل في هذا الكنز الثمين الذي وهبه الله لها، وتجلس تفكر في ثلاثة نماذج من أصحابها:
الأولى، تضيع وقتها في الأشياء غير المفيدة، فتنام 10 ساعات وباقي الوقت تقضيه ما بين مشاهدة التلفاز والتحدث مع صديقاتها وما بين الخروج معهن.
الثانية، انتهزت فرصة الإجازة للنوم، ثم النوم ثم النوم، فهي تريد تعويض قلة النوم التي نتجت عن المذاكرة.
الثالثة، قسمت وقتها ما بين الترفيه وحفظ القرآن والقراءة.
تقف الفتاة حائرة بين النماذج الثلاثة فأي نموذج تحتذي به، فهي تريد أن ترفه عن نفسها, وتأخذ قسطًا من الراحة وفي نفس الوقت تريد ألا يضيع هذا الوقت سدى دون استفادة.
الوقت هو الحياة:
لعلكِ أولًا أيتها الغالية تتعرفين على أهمية الوقت، وكيف كان حال الصالحين في التعامل مع الوقت، يقول الحسن البصري رحمه الله: (أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشدّ منكم على دراهمكم ودنانيركم).
وعامر بن عبد قيس – أحد التابعين – قال له رجل ذات مرة: كلّمني، فقال له: أمسك الشمس، وما ذلك إلا ليشعره بقيمة الوقت.
فماذا عسانا أن نقول بعد هذا، وفينا من يتفنّن في تضييع الأوقات بتوافه الأمور والأشياء، بل وبما يُغضب الله.
وههنا سؤال يحتاج إلى إجابة: متى يعرف المفرط قدر الوقت وقيمة العمل فيه؟
ذكر الله تعالى في القرآن الكريم موقفين عظيمين يندم فيهما الإنسان على ضياع الوقت والحياة، ويعلم أنه كان مغبوناً خاسراً في حياته.
الموقف الأول: ساعة الاحتضار .. حينما ينزل الموت بالعبد المفرط {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10]، ({مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ} متحسرًا على ما فرط في وقت الإمكان، سائلًا الرجعة وأنى له ذلك: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي: لأتدارك ما فرطت فيه، {فَأَصَّدَّقَ} من مالي، ما به أنجو من العذاب، وأستحق به جزيل الثواب، {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} بأداء المأمورات كلها، واجتناب المنهيات، ويدخل في هذا، الحج وغيره، وهذا السؤال والتمني، قد فات وقته، ولا يمكن تداركه) [تفسير السعدي، (1/865)].
الموقف الثاني:
في يوم القيامة .. حين يقول المفرط في جنب الله حين يرى العذاب {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27].
وقفة للانطلاق:
كل منا يتذكر أيام طفولته وكيف كان يتمنى أن يصبح طبيبًا حاذقًا أو مهندسًا بارعًا أو عالمًا جليلًا؛ وهذه قصة لواحدة من أصحاب الأمنيات، فحينما كانة طفلة صغيرة كانت تراودها أحلام النجاح، كانت تريد أن تصير شخصية ذات قيمة في مجتمعها، عاشت طفولتها كغيرها من الأطفال لا همَّ لها إلا اللهو واللعب، ومرَّ بساط الوقت بين يديها حتى بلغت سن الشباب، ونجحت في مدرستها، وكانت درجاتها تؤهلها لدخول كلية الإعلام فدخلتها.
وبعد أن دخلت تلك الكلية وقضت فيها عامًا كاملًا شعرت بأن تلك الكلية لا ترغب فيها وأنها لا تحب الدراسة فيها، ومن ثم قررت أن تتركها لتبحث عن غيرها لتشعر بالسعادة والراحة، ولكن جعلت الأيام تمر وبدأت تشعر مع مرورها باليأس من حياتها، فكلما ارتسمت أمامها طريقًا للنجاح ما استطاعت أن تسير فيه.
وكالعادة وجدت مجموعة من المحبطات يحاولون أن يقضوا على الأمل الذي تبقى في نفسها، وبدأت وسوستهم تخترق أذنها، وهنا بدأت تسأل نفسها: ماذا أفعل؟ كيف أغير من حياتي؟ وحينها أدركت (لكي تنجح في الحياة، وتحقق ما تريد من أهدافك، فعليك أن تتعلمي كيف تديري ذاتك) [إدارة الذات، د.أكرم رضا، ص(16)].
إذًا فإذا أردت استغلال الإجازة حق استغلال عليكِ أختي الحبيبة أن تديري ذاتك بفاعلية، ولعلكِ تتساءلين ما معنى إدارة الذات؟
إدارة الذات يُعرفها الدكتور أكرم رضا: (معرفتك لقدراتك، واستخدامك الأمثل لهذه القدرات) [إدارة الذات، د.أكرم رضا، ص(16)].
ولقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أروع الأمثلة في معرفتهم لقدراتهم، واستخدام تلك القدرات الاستخدام الأمثل، فأثمر ذلك نبوغًا باهرًا في ميادين شتى، فرأينا أبا بكر وعمر وزراء أكفاء للنبي صلى الله عليه وسلم، ورأينا خالد بن الوليد قائدًا للجيش، ورأينا معاذ بن جبل عالمًا بل أعلم الأمة بالحلال والحرام ولم يتجاوز بعد العقد الرابع من عمره.
لاشك أنه منهج الإسلام الذي رباهم عليه النبي عليه الصلاة والسلام، والذي غرس فيهم البذل والعمل والعطاء؛ فأخرج كل واحد منهم طاقاته وإمكاناته المكنونة، ثم أهداها لدين ربه سبحانه وتعالى فأشرقت الدنيا بهم وتشرفوا هم بإيمانهم وإسلامهم.
حددي هدفك:
فمن أهم الأمور التي تساعدكِ على استغلال الإجازة هي أن تحددي هدفك، فصناعة الهدف هي التي ترسم مسار حياة الإنسان، فكل ما يبذله المرء في حياته ليس له أي قيمة إذا لم يكن قد حقق هدفه، يقول توماس كلير: (بدون هدف ستكون حياتك كقارب بلا دفة، وستنتهي رحلتك على صخر الحياة أشلاء مبعثرة) [سيطر على حياتك، د.إبراهيم الفقي، (18)].
فإذا لم تتعلمي كيف تجعلين لك هدفًا في الحياة، فدعِ الحياة هي التي تقودكِ كيفما شاءت، ولا تلومي إلا نفسك، ولكنكِ إذا حرصتِ على أن تتعلمي هذه المهارة فسوف تربحي الكثير والكثير بدءًا بأن تمتلكي زمام حياتك ـ بإذن الله عوضًا ـ على أن تتركي نفسك في مهب الريح، إلى أن تنالي إعجاب الآخرين، وتكون مثالًا يُحتذى به.
ولذا حرص القرآن الكريم على إيضاح قضية الهدف للمسلمين، فقال جل في علاه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
اللؤلؤ البرَّاق:
إن الخطوة الثانية التي تعينك على استثمار الإجازة الصيفية هو أن تديري وقتك جيدًا، يقول الدكتور عوض القرني: (إن أخطر مشكلة تواجه الأمم والأفراد هي مشكلة ضياع الأوقات، إذ أن ذلك يعني ضياع الحياة، وكل فائت قد يُستدرك إلا فائت الزمن؛ ولذلك تذكر دائمًا هذه العبارات واكتبها أمامك بخط عريض:
(الوقت لا يتوالد، لا يتمدد، لا يتوقف، لا يرجع للوراء، بل للأمام دائمًا) [حتى لا تكون كلا، عوض القرني، (45)]، فهناك حكمة خاطئة انتشرت بين الناس تقول: (الوقت من الذهب)، فالوقت أغلى بكثير من الذهب، فهو أثمن ما يملكه الإنسان، فإذا استطعت عزيزي القارئ أن تكتسب هذه المهارة، فستسطيع:
1. أن تنفذي المهام والأعمال الهامة بأقل جهد وأقصر وقت، ثم تتفرغي للتخطيط لمستقبلك، والراحة والاستجمام.
2. أن تستغلي أوقاتك التي تضيع هباء منثورًا، في الخروجات والتنزهات وطول المكث على أجهزة الألعاب.
وحين تستغلي وقتك حقًا وتنجزي فيه أعمالًا مفيدة وهامة، حينها فقط ستشعرين بلذة غامرة تتخلل كيانكِ، فعليكِ أن تجربي ولو يومًا، قومي بإعداد ورقة لليوم التالي وضعي فيها أهدافك والأعمال التي تريدي إنجازها، وحدديها بالساعة أي كل ساعة سأفعل فيها كذا، واجتهدي قدر استطاعتكِ ألا يثنيكِ شاغل مهما كان عن تنفيذ تلك المهام، وحين تحققي أهدافك في ذلك اليوم، انظري لمدى سعادتكِ وشعوركِ بالإنجاز في آخر اليوم؛ فما بالكِ لو أن حياتك كلها كذلك اليوم؟
مشاريع للإجازة:
خذي أيتها الحبيبة هذه أمثلة لبعض المشاريع المقترحة لاستغلال الإجازة:
1. المشاريع الإيمانية: فنحن يمكن أن نجعل من الإجازة فرصة للتزود بالتقوى والعمل الصالح، مثل: أداء العمرة، حفظ القرآن الكريم، وحضور الدروس الدينية، وحضور المحاضرات والندوات، الاشتراك في القوافل الخيرية, وزيارة الأيتام وغيرها.
2. المشاريع العلمية: كحضور الدورات العلمية كدورة الـ ICDL، أو دورات تعلم لغة معينة، أو علمًا من العلوم.
التطوير المستمر:
هناك مثلٌ يقول: (تحضيرات اليوم تحدد إنجازات الغد)، فالإنسان إذا قام بوضع هدفه، وتعرف على الطريق الذي سيوصله إلى هذا الهدف لابد وأن يسأل نفسه: لكي تصل إلى هذا الهدف، ما القدرات والمهارات التي لابد أن أكتسبها حتى أحقق تلك الغاية؟ وكيف سأحصل تلك المهارات؟
فما من سائر في طريق، وقد ضل فيه وأراد أن يعرف وجهته الصحيحة، فلابد وأن يعلم أولًا أين هو الآن؟ حتى يعلم في أي طريق سيسير، وتلك المهارة ستعينكِ على أن تجيبي على مثل هذا السؤال.
وبعد الكلام:
تذكري أنه إذا أردتِ أن تكوني ناجحة في حياتكِ، فلابد وأن تتعلمي كيف تديري ذاتِك، لابد وأن ترسمي من الآن طريقكِ بأن تحددي هدفكِ، ثم تتزودي بتلك المهارات التي ستعينكِ حتى تصلي إلى غايتكِ ومرادكِ، وذلك بإدراك قيمة الوقت وكيفية استغلاله، ثم تثق في أنكِ إذا استعنت بالله جل وعلا سوف تحققي طموحاتك، وهكذا تستطيعي أن تستثمري كنزكِ الثمين.